المقدمــــة:
كثيراً ما نسمع وندرس عن الشعراء والكتاب والأدباء والنقاد والنبغاء ، ولكن قلة هم الذين نعرفهم معرفة تقف على بعض جوانب حياتهم وأعمالهم. فالمعرفة القليلة لا تعني الاكتفاء بهذا القدر من العلم، بل تحفز الإنسان للبحث عن المزيد، والتعرف على الجديد.
وهناك العديد من الشعراء والأدباء الذين لا نعرف عنهم الكثير أو لم يرد ذكرهم لدى العديد من الناس، وذلك لأنهم لم يكونوا مشهورين أو ربما لم يكتب عنهم لسببِ أو لآخر. فلم لا نقوم بالسؤال عنهم ومعرفتهم. ومن هؤلاء الأديبة والكاتبة اللبنانية ميّ زيادة. تلك التي أمضت سنين حياتها في التعلم والكتابة والمشاركة في المنتديات الأدبية. فقد جادت بعطائها في الأدب والشعر وأمور كثيرة غيرها...لدرجة أن الأدباء في عصرها مدحوها وأثنوا عليها الثناء الحسن.
وقمت بتقسيم بحثي إلى ثلاثة أقسام في القسم الأول تحدثت عن تاريخ حياة ميّ، وكان القسم الثاني عن ميّ الكاتبة الاجتماعية، وأما القسم الثالث فوقفت على شخصيتها.
مـيّ زيــــادة(1886-1941 م)
حياتـــها:
ولدت ماري ابنة إلياس زيادة في الناصرة بفلسطين، حيث كان أبوها اللبناني الأصل يدرّس في أحد المعاهد الحكومية. وعندما بلغت الرابعة عشرة من عمرها انتقل بها ذووها إلى لبنان. وأدخلت مدرسة الراهبات في عينطورة، وقد عرفت حينها بميلها الشديد إلى العزلة وبنزعتها الرومنطقية الحادة. وفي عام 1904 انتقلت إلى مصر، حيث تولّى والدها إدارة مجلة المحروسة.1 "بعدها بدأت تكتب في جريدة المحروسة ومجلة الزهور".
أتقنت مي تسع لغات أوروبية فهماً وكتابةً؛ منها الفرنسية والإنكليزية والألمانية والأسبانية والإيطالية واليونانية الحديثة. ولكن لم يكن ذلك ليصرفها عن تقدير وطنها، ووعي تاريخه، وعشّق طبيعته، ومعرفة ومصافاة رجاله من ذوي العلم والأدب، والثقة الراسخة بمستقبله والاهتمام الصادق لمصالحه الاجتماعية وثروته الأدبية. حتى أصبحت هذه الأمور موضوع كتاباتها وتحريضاتها، ووهبت له ما تملك من ذكاء وعاطفة واندفاع صادق. واتسعت تلك العاطفة الوطنية لتشمل الشرق على اختلاف نزعاته الدينية والوطنية، وارتقت إلى العاطفة الإنسانيّة الشاملة. 3
أعمالها:
أصدرت أول كتاب لها عام 1910 بالغة الفرنسية باسم "أزهار حلم" تحت اسم إيزيس كوبيار المستعار. كتبت كتباً أخرى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى منها: باحثة البادية، وظلمات وأشعة،وبين المد والجزر، والصحائف، وكلمات وإشارات، وسوانح فتاة .
بعض هذه الكتب كانت مطبوعة مثل:
- أزهار حلم: شعر بالغة الفرنسية.
- باحثة البادية: وضعته ميّ سنة 1920، ودرست فيه شخصيّة ملك حفني ناصف ونظريّتها الاجتماعيّة، وعلّقت على تلك النظريّة تعليقات جريئة وصريحة كان لها أبعد الأصداء في دنيا العرب وفي تطوير حالة المرأة العربيّة.
- كلمات وإشارات: مجموعة من الخطب الاجتماعيّة طُبعت سنة 1922 وقد عالجت ميّ في بعض تلك الخطب حالة البؤس والشقاء التي يتخبّط فيها اليتيم والفقير، ودعت إلى مساعدتهما مساعدة فعّالة.
- سوانِح فتاة: مجموعة من النظريّات والآراء جُمعت بناءً على اقتراحٍ من الأديب ولي الدين يكن، ونُشرت سنة 1922.
- المساواة: معالجة لقضيّة الطّبقيّة الاجتماعية. كتاب فريد في نوعه في اللغة العربيّة، بحثت فيه الطبقات الاجتماعيّة وكيفيّة نشوئها، ثم عرضت لحلول المشكلة عرضاً حافلاً بالدقّة وعمق النظر.
- الصحائف: ظهر هذا الكتاب سنة 1924 وفيه مقدّمة تنطوي على نظرة قيّمة في النقد الأدبي، وقسمان: قسم لصحائف بعض الأشخاص، وقسم لرحلات السندباد البحريّ.
- بين الجزر والمدّ، وظلمات وأشعة: في الكتابين مقالات أدبيَّة وفنيّة وشعريّة.
وبعضها منقول مثل "ابتسامات ودموع" (عن الألمانية 1911)، و"الحب في العذاب"
(عن الإنكليزية 1925)، و"رجوع الموجة" (عن الفرنسية 1925). 4
كان بيتها منتدى علم وأدب تعقد مجالسه كل ثلاثاء من كل أسبوع،كان يتنافس في التردّد عليه والانضمام إلى صفوفه الزعماء والأدباء والشعراء ورجال الفكر والسياسة.
- من الذين كانوا يترددون على مجلسها:
(لطفي السيد وإسماعيل صبري باشا ، وطه حسين وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي وغيرهم). 5
مما قيل عنها:
قال مصطفى عبد الرزاق :
"أديبة جيل، كتبت في الجرائد والمجلات، وألفت الكتب والرسائل، وألفت الخطب والمحاضرات، وجاش صدرها بالشعر أحياناً، وكانت نصيرة ممتازة للأدب، تعقد للأدباء في دارها مجلساً أسبوعياً، لا لغو فيه ولا تأثيم، ولكن حديث مفيد وسمر حلو وحوار تتبادل فيه الآراء، في غير جدل ولا مراء".
وفي مجلسها يقول إسماعيل صبري باشا:
"إن لم أمتع بمّي ناظري غداً
أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء".
ميّ الكاتبة الاجتماعية:
كانت ميّ بنت الشرق العربيّ المخلصة لبلادها وأبنائه، تطمح لهذا الشرق أن يواكب التطور الحضاري من غير أن يؤثر ذلك في شخصيته الشرقية. وفيما يلي بعض مما قامت به في سبيل ذلك...والذي كان سلاحها فيه عقل مفكِّر وإرادة صلبة،وأسلوب في الكلام رصين وساحر.
1- ميّ والمرأة:
كانت ميّ تؤيد المرأة وتطالب بحقوقها، فقد انضمت إلى الحركة النسائية التي كانت ترأسها هدى شعراوي، وكذلك اشتركت في الاجتماعات التي كانت تعقدها في الجامعة المصرية القديمة. وكتبت ميّ عن شهيرات النساء في عصرها مثل باحثة البادية وعائشة التيمورية. وطالبت بإنصاف المرأة؛ إلى جانب ذلك طالبت المرأة أن تتحرّ، على أن لا تخرج عن حدود المعقول والمقبول، بل يكون تحررها على أساس العلم والتحفظ. وترى ميّ أن يكون موقف المرأة من الرجل، والرجل من المرأة موقف انسجام مع الطبيعة والنفسيّة، في غير تطرف ولا تفريط.
2- ميّ والحُكم:
عالجت ميّ زيادة موضوع الحكم في كتابها "المساواة" نثرت آراءها هنا وهناك من شتّى أبحاثها. ودعماَ لموقفها في كتابها فقد استعرضت الأنواع المختلفة من التيارات والنظريات مثل الطبقيّة والأرستقراطية والعبودية وغيرها.
فمثلاَ عن العبودية والرّق استعرضت مراحلها عبر التاريخ، وبينت العوامل التي عملت على إلغاء ضروب العبوديّة وتدعيم قواعد التحرير؛ وهي ترى أن هذه العبودية ما زالت تلاحق الإنسانية بصورٍ مختلفة وأساليب شتّى.
3- ميّ الخطيبة:
قالت جوليا دمشقيّة: "لم أرَ في حياتي خطيباَ اشرأبّت إليه الأعناق، وشخصت إليه الإحداق كميّ، فكانت، وهي تخطب، كأنَّ أجفان سامعيها مشدودة إليها بالأهداب، وما ذلك إلا لأنّه اجتمع في الخطيبة أهم مقومات الخطابة".
وهذه المقومات التي تشير إليها الكاتبة هي : سلامة الذوق، ومراعاة مقتضى الحال، ورخامة الصوت وطاقته الانسيابية الفريدة وغيرها من المقومات التي تميزت بها ميّ.
شخصيتها:
مما قالته في وصف نفسها في رسالة بعثتها إلى جوليا طعمة دمشقيّة:
"أصحيح أنك لم تهتدي بعد إلى صورتي، فهاكِهَا: استحضري فتاة سمراء كالبنّ أو كالتّمر الهنديّ، كما يقول الشعراء، أو كالمِسك كما يقول متّيم العامريّة، وضعي عليها طابعاً سديميٍّا من وجد وشوق وذهول وجوع فكريّ لا يكتفي، وعطش روحي لا يرتوي، يرافق ذلك جميعاً استعداد كبير للطرب والسرّور، واستعداد أكبر للشجن والألم- وهذا هو الغالب دوماً- وأطلقي على هذا المجموع ميّ..."
كانت ميّ ذات علم واسع إلى جانب العذوبة والإحساس العميق المرهف الذي كانت تتصف به فقد عرفت بشخصية المعرفة والطموح الفكري والفني. 11
وأيضاً اتصفت بالجرأة الأدبية والاعتداد بالنفس والثقة بالذات، وكانت المرأة التي تحاول الهيمنة على مجتمعها لتخرجه من تخلفه وضيق آفاقه، وتنطلق به في عالم الرّقي.
وعلى الرغم كل هذه الصفات الإيجابية التي كانت تتصف بها إلا أنها كانت حزينة. ولكنها لا تظهر ألمها إلا لنفسها، وفي ذلك قالت: " احرصي على جرحِ قلبكِ أيتها الفتاة... قلت أخبريني ما بكِ؟ قالت: يحزنني الربيع. يحزنني أن أرى مواكبه الجميلة تسير في الفضاء فلا يراها البشر إلا من كوى* ضيّقه نُقبت في الجدران الحديدية".
وفاتها:
مات أبوها وبعده أمها. ثم توفي جبران خليل جبران الأديب الكاتب، فكانت الفاجعة كبيرة، وذلك لأنهما كانا متحابين على الرغم من أنهما لم يلتقيا، إلا أنهما كانا يتبادلان الرسائل. فشعرت بالوحدة، وغلبها الحزن فاعتزلت الناس، وانقطعت عن الكتابة والتأليف، وتغلبت عليها "الوساوس"، فمرضت سنة 1936 وظلت في اضطراب عقلي نحو عامين، وتعافت إلا أنه عاودها المرض مما أدى إلى وفاتها في مستشفى المعادي، ودفنت في القاهرة في 19 تشرين الأول من سنة 1941. 7
الخاتمة
عاشت ميّ معظم سنين حياتها في مصر، وعرفت بمنتداها الأدبي الذي كان يختلف إليه كلّ ثلاثاء نخبة من الأدباء والمفكرين. وكذلك باهتمامها بوطنها، فكانت تعمل بجد من أجل تطويره ورقيّه مع الحفاظ على أصالته وتراثه. إلى جانب ذلك تناولت ميّ بعض القضايا التي تهم المجتمع، مثل المرأة، والحكم.
ولميّ العديد من المؤلفات والرسائل، والمقالات في الجرائد والمجلات، والخطب والمحاضرات. وكان لثقافتها المتنوعة تنوع أزهار الحدائق الغناء،إلى جانب إتقانها لعدة لغات اثر واضح في عذوبة أسلوبها، وروعة تصويرها، ودقة وصفها، وتميز أدبها الوجداني وشفافيته. إضافة إلى شخصيتها الجريئة وطموحها وفطنتها.
وكل هذه السمات تعزز الإبداع والتميز عند ميّ في مجتمع ندر فيه المتعلمين وخاصة من النساء، حتى كان يمكن عدهن على أصابع اليد الواحدة في كل قطر.
ولا يمكن نسيان دور البيئة التي نشأت ميّ فيها وترعرعت، وكان منهل وفير في تميز وتوجيه تلك الندرة. حتى غدت منارة تشع بالعلم، ومنهل يستقى منه.
قائمة المراجع
1) 1) -حنّا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربي "الأدب الحديث"، الطبعة الأولى، دار الجليل، بيروت- لبنان، 1986م.
2) مُنير البعَلبكي، موسوعة المورد العربية، دار العلم للملايين، بيروت- لبنان، 1997م.
3) الموسوعة العربية العالمية،الطبعة الأولى، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، 1996م. -http://www.arabicpoems.com/fousha/mem/maiizeyada1/ka2aba.htm